بسم الله الرحمن الرحيم
عَلِم أن الباب الماثل أمامه مفتاح؛ فهو يُبصر بعينيه ذلك الفراغ الذي يملؤه المفتاح عند دخوله، وبدونه لا يمكن اجتياز الباب والوصول إلى الطرف الآخر، يمسك المفتاح، يديره، لكنه لا يستجيب، عبثاً يحاول ويكرّر دونما جدوى، ليكتشف أن مفتاحه مُصْمتٌ لم تُحفر أسنانه، وأنّى لمفتاحٍ بلا أسنانٍ أن يفتح باباً؟
كذلك الإيمان، وكذلك كلمة لا إله إلا الله، هي المفتاح الأكيد لدخول الجنة، والوصول إلى دار السعادة والانتقال من حياة الابتلاء والشقاء، إلى حياة الطمأنينة والرخاء. هذا ما هو مستقرٌّ في النفوس المؤمنة التي تقرأ في صفحات الكتب، أو تسمع من أفواه الخطباء والوعّاظ، قول سيد الأولين والآخرين –صلى الله عليه وسلم-: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، حرم الله عليه النار) رواه الترمذي، يقفون عند هذا الحد، ويكتفون في إقامة التصوّر للنجاة بمجرّد الربط بين قول هذه الكلمة، وبين دخول الجنّة.
ألا إن الأمر ليس كذلك، ولا يمكن الاقتصار على مجرّد القول، كما لا يمكن الاقتصار على مفتاحٍ (خام) لم تُصقل أسنانه بعد في فتحِ أي باب، ومفتاح (لا إله إلا الله) له أسنان كما يقول علماء العقيدة، وأسنانه هي الشروط التي ينبغي توافرها في قائلها، وقد نقل البخاري وهب بن منبه إذ قيل له: "أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟" فقال: "بلى، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاحٍ له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك".
ويمكن إجمال هذه الشروط فيما يلي:
الأوّل: العلم بمعناها في النفي والإثبات
فالعلم بمعناها هو الذي يعصم المرء من مخالفة مقتضاها أو تلويث صفائها وطهارتها بألوان الشرك الجلي والخفي، ولنتأمّل التنصيص على ضرورة العلم بهذه الكلمة وإدراك معانيها في قول الحق تبارك وتعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} (محمد:19)، وقوله سبحانه: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} (الزخرف:86)، وفي تفسيرها يقول الطبري: " إن الله تعالى أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد، إلا من شهد بالحق، وشهادته بالحق: هو إقراره بتوحيد الله، يعني بذلك: إلا من آمن بالله، وهم يعلمون حقيقة توحيده".
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه مسلم، فلا تنفع الشهادة إلا لمن عرف مدلولها نفيا وإثباتًا، ومن خلال هذا الحديث وما سبقه من الآيات، استدلّ العلماء على أن أول واجب على الإنسان هو معرفة الله، ونُظم لهذا المعنى قول قائلهم:
أول واجب على العبيد* معرفة الرحمن بالتوحيد
الثاني: اليقين المنافي للشك
إذْ لا ينفع قول هذه الكلمةالعظيمة مع الشكّ في معانيها ومدلولاتها، وما سُمي المعتقد معتقداً إلا لأن المرء يربط عليه قلبه ربطاً جازماً، والشك يُنافي هذا الجزم المطلوب في باب المعتقد.
ومما يُستدل على هذا الشرط قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (الحجرات: 15) وما صدق عليهم وصف الصدق عند إيمانهم بالله ورسوله إلا بالقيد المذكور: {ثم لم يرتابوا} والريبة هي الشك المنافية لليقين، فكان حال المؤمنين المنتفعين بكلمة التوحيد أنهم لم يشكوا في وحدانية الله، ولا في نبوة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ومن الأحاديث في هذا المعنى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاكٍّ فيهما، إلا دخل الجنة) رواه مسلم، وقوله عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة رضي الله عنه: (اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله، مستيقناً بها قلبُه، فبشّره بالجنة) رواه مسلم، وما رواه ابن حبان في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً: (إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من قلبه فيموت على ذلك إلا حرمه الله على النار: لا إله إلا الله)، وغيرها من الأحاديث كثير.
الثالث : القبول المنافي للرد
لا ينتفع من عَلِم حقيقة الشهادة واستيقن قلبه من صدقها، دون أن يُسلم وجهه لله وينقاد لها، فهذا إبليس لعنه الله، لا يشكّ طرفةَ عين بوحدانيّته سبحانه، وبصدق أنبيائه، فما نفعه ذلك حين أبى الطاعة والانقياد، ومثل ذلك يُقال عن فرعون الذي استنكف واستكبر عن قول الحق والشهادة به، حتى إذا عاين الموت قالها طمعاً في النجاة: { حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين* آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} (يونس:90-91)، وقد عاب الله على كفار قريش تركهم للحق استكباراً وجحوداً: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون* ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون* بل جاء بالحق وصدق المرسلين} (الصافات:35-37).
الرابع: الانقياد المنافي للترك، والتسليم لمقتضى هذه الكلمة ظاهراً وباطناً
من الطبيعي أن يكون قول لا إله إلا الله يستلزم الاستجابة للأوامر الربانية، والاستسلام للشرائع الإلهيّة، وإلا لن يكون لهذه الكلمة معنى مع ترك الانقياد، وهنا يأتي قول الله تعالى: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى} (لقمان: 22)، وإسلام الوجه هو الاستسلام والانقياد المطلوبان للنجاة، فلا اعتراض على أحكام الله أو شرائعه وأقداره، ويتوافق مع هذا المعنى قوله سبحانه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (النساء:65)، فحكم عليهم بعدم الإيمان حتى يكون منهم التسليم التام.
الخامس: الصدق المنافي للكذب
فلا يتفوّه بهذه الكلمة رياءً وسمعة، أو من باب المخادعة للمؤمنين، وهذا الذي يجعلنا نحكم بكفر أهل النفاق؛ فإنهم يشهدون شهادة الحق، ولكن على سبيل الكذب، فلم تنفعهم شهادتهم عند الله، كما جاء في الآيات الكريمة:{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين, يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون, في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} (البقرة:8-10)، { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون* اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون} (المنافقون:1-2).
ومما يدل على حتميّة هذا الشرط، حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه، إلا حرّمه الله على النار) رواه البخاري، فلا ينفعه مجرد اللفظ بدون مواطأة القلب.
السادس: الإخلاص المنافي للشرك
الإخلاص المطلوب هنا هو اختصاص الله سبحانه وتعالى بالعبادة وبالإرادة، فيكون ضدّها: أن يُشرك مع الله غيره، وأن يُبتغى بالعمل غير وجه الله تعالى، فلابد من تخليص هذه الكلمة العظيمة من شوائب الشرك والرياء التي قد تخدش بالإيمان فتضرّه، ونحن نقرأ في خاتمة سورة الكهف قوله تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} (الكهف:110)، وعامة أهل التفسير يذكرون في معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (الملك:2) أنه أخلصه وأصوبه.
والأحاديث في ذلك كثيرة، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أسعد الناس بشفاعتي، من قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه أو نفسه) رواه مسلم، وحديث عتبان بن مالك رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الله حرّم على النار، من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله عز وجل) رواه البخاري، ومثله حديث: (إني لأرجو ألا يموت أحد يشهد أن لا إله إلا الله، مخلصاً من قلبه، فيعذبه الله عز وجل) رواه البخاري.
السابع: المحبة المنافية للكراهية
والمحبة أساسٌ متين في كلمة التوحيد، معناه: أن يكون الله سبحانه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحبّ أهلها العاملين بمقتضاها والملتزمين بشروطها، وبغض كلّ من خالف ذلك: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} (آل عمران: 31).
قال ابن القيم : "دلّ على أن متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما؛ فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة، ولا يهديه الله".
ونجد الترابطُ جليّاً بين مسألة المحبة، وكلمة التوحيد، في حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ما الإيمان؟ فقال عليه الصلاة والسلام:(أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما) رواه أحمد.
الثامن: الكفر بالطاغوت
لا تصح الشهادة ما لم تتضمّن الكفر بكل ما يُعبد من دون الله، ولا ينتفع أحدٌ لا يظنّ في قرارة نفسه كفر من أشرك بالله، نجد ذلك واضحاً في قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} (البقرة:256)، وقوله سبحانه: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله) رواه مسلم وتحريم المال والدم هو بالأساس للمسلمين، فدلّ على ضرورة البراءة من الشرك وأهله.
التاسع: الموت على هذه الكلمة
مسألة الاستمرارية والثبات على المبدأ في غاية الوضوح، ومهما كانت حال المؤمن وعبادته فلن يستفيد من إيمانه شيئاً ما لم يظلّ على هذه الكلمة حتى مماته، وعندها ينتفع بها، أما إذا خُتم له بالشرك فمات عليه فقد خسر الدنيا والآخرة، ولم ينفعه إيمانه وعمله الصالح بشيء، قال الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:217).
ولذلك جاء تحذير المؤمنين من خطورة النكوص والتراجع في نهاية المطاف، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (فوالذي نفسي بيده إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) رواه البخاري.
هذه هي الشروط التسعة، والتي ينبغي على الجميع أن يُحافظ عليها وأن يعمل بها جميعاً، ولابد من اجتماعها حتى تتحقق النجاة والسلامة، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن حقق التوحيد فاستحق بموجبه الجنّة.