لقد تحدث كثير من العلماء عن أوجه الإعجاز في القرآن الكريم– وهي كثيرة ومتعددة وواسعة باتساع مساحة العلوم والمعارف- مثل: الإعجاز البلاغي والبياني والإعجاز التأثيري والإعجاز التاريخي والإعجاز الغيبي والإعجاز العلمي.
ولكن يبقى إعجاز القرآن في أنه كتاب"هداية" و"تغيير" هو الإعجاز الذي لا يشاركه فيه كتاب مخطوط كما قال الله تعالى:{ الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وقال أيضا:{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ }، وقال تعالى أيضا:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً}.
لقد هدى الله بالقرآن وغيَّر أمة جاهلية لتصنع الحضارة السامقة وهي التي كانت تعيش في وسط صحراء الجزيرة العربية، موزعة الولاء بين الفرس والرومان، وقبائلها متناحرة ومتحاربة لسنوات طويلة على أتفه الأسباب، لتصبح أمة مسلمة شهد الله لها بالخيرية فقال:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }.
لم يكن سهلا هداية العرب وتغييرهم، وقد كانت الجاهلية متحكمة فيهم كما وصف حالهم جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- في حضرة النجاشي ملك الحبشة، فقال:
" أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام، - قالت: فعدد عليه أمور الإسلام -، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا ففتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، ولما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك".
ولكن قدرة القرآن الخارقة في إقناع العقل والتأثير على الوجدان، أحدثت"انقلابا إيجابيا" في النفوس العربية، فحوَّلت عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- إلى رجل أحوذي عبقري مضرب المثل في سياسة الناس والعدل في حكمه، وقد كان بعض الصحابة يتندرون فيقولون: "لا يسلم ابن الخطاب حتى يسلم حمار الخطاب"، وكان في جاهليته يعبد تمثالا من تمر في أول النهار، ثم إذا جاع آخره أكله..!
لقد حرك القرآن في المسلمين طاقة العقل الخامدة، فأطلقوا العنان له ليبحث في العلوم والمعارف حتى خرَّج للأمة الإسلامية، مجموعة كبيرة من علماء السلف القرآنيين، الذين سبقوا غيرهم في عالم الاكتشافات العلمية في تخصصات مختلفة، وخدموا الإنسانية بعلمهم وبحثهم ودرسهم، فساهموا في الرقي الحضاري إسهاما معتبرا حتى قادت الأمة الإسلامية العالم قرونا عددا وما كَبَت إلا بعدما فرق المسلمون الذين جاءوا من بعدهم بين الدين والعلم، وتمكنت منهم الخرافات والهرطقات، واستلذوا الشهوات، وآثروا البطالة والكسل على النشاط والعمل..!
أسماء علمية عظيمة نهلت من مائدة القرآن يشهد لها التاريخ بالعبقرية لعبت دورا مهما في التطور العلمي قد تخرجت من المساجد التي كانت جامعات للعلم والدين على حد سواء مثل: ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية، وابن سينا الذي اكتشف التخدير لإجراء العمليات الجراحية وغيرها من المكتشفات الطبية، والرازي الذي صنع خيوط الجراحة من أمعاء الحيوانات، وابن الهيثم الذي اخترع النظارات الطبية لضعاف البصر وأسس علم البصريات، والجزري الذي اخترع المضخات التي مهدت لاختراع المحركات، وابن يونس الذي اخترع البندول، والخوارزمي مؤسس علم الجبر، وجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء وأول من تكلم في مسألة الانشطار النووي والطاقة الذرية، وابن خرداذبة الذي أثبت كروية الأرض قبل كوبرنيكوس بعدة قرون، وزين الدين الآمدي أول من اخترع الحروف المخصصة للمكفوفين، و، و، و...
ما ذكرته من أسماء تعد قطرة في بحر الأسماء الكبيرة التي ساهمت في الاكتشافات العلمية، بيد أن الغرب الذي أرّخ لتاريخ العلوم حصر العلماء المكتشفين في بني جلدته ودينه فقط وجعلهم السابقين في كل شيء، فدفعه الشنآن إلى عدم العدل..!
وحرك القرآن مشاعر الوجدان التي غلفتها الجلافة ودعوى القبلية المقيتة فذابت كل الأوصاف والأعراق في دائرة واحدة عنصرها الأهم "الإسلام"، حيث قال ربنا:{ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ }، وقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }، وقال:{إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، فكان بالإسلام التراحم والتلاحم صفة ملازمة لأهل القرآن، وأتباع القرآن، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: " مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى ".[أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير].
إن القرآن المعجز الذي غيَّر أمة جاهلية بعد هدايتها، وجعلها صانعة للحضارة وقائدة للأمم، قادر على إعادة الكرة في بعث الأمة الإسلامية من مرقدها، وإنقاذها من شقوتها العامة.
جردة البصائر.