تابعت كتيبة اليخاندرو سابيلا الارتقاء مستوى ونتائج وقد بلغت من النضج مبلغاً عاتياً.
زاهر الحلو- ريو دي جانيرو
حين توّجت الأرجنتين بلقبها الثاني لم يكن ليونيل ميسي قد ولد بعد وحين خسرت نهائي 1990 كان يبلغ الثالثة من عمره، إنجازات للتانغو لم يعايشها نجم برشلونة قط إلا أنّه الآن يقف على قابي قوس من تحقيق ما صبا له شخصياً وما انتظره مواطنوه طيلة 28 عاماً.
أمس أمام هولندا ظهر"لا ألبيسيلستي" بنسخة مغايرة ومفاجئة، لم يصنع الكثير من الفرص إنّما شاهدنا منتخب اليخاندرو سابيلا صلباً متماسكاً منضبطاً حسن الانتشار يعرف ما يريد متى يتقدّم وكيف يتراجع، سريع الانقضاض دفاعه ضاغط وصعب الاختراق، ارتكازه يحارب استباقياً، يحميه حارس بات متمكناً، ظهيراه وجناحاه شعلة نشاط، والأهم من هذا كله يقوده ملهمان: ميسي ميداناً ومارادونا رمزاً.
تابع لاعبو سابيلا نسقهم التصاعدي الرائع وتحولوا من مجموعة مواهب تجري كيفما اتفق ينتشلها ليونيل، إلى منتخب تكتيكيّ بامتياز دون شكّ فاجأ الداهية لويس فان خال القائل قبل مواجهة نصف النهائي الثانية: "شهدت شوطاً واحداً من مباراتهم مع بلجيكا.. يملكون مهارات فردية جيدة ورأيت بلجيكا تسيطر على الشوط الأول" في إشارة ضمنية أن لا هوية جماعية لآخر ممثلي اللاتين.
ورغم أن الكلام كثر في الإعلام حول سابيلا بدءاً من أنّه شخصية فنية متحفظة لا تلائم مهارات الأرجنتين مروراً بضعف حضوره أمام ميسي الللاعب والموجه وقلّة تقدير اللاعبين له ومنها رؤية لافيتزي يرشق الماء عليه خلال مباراة نيجيريا، وصولاً لعدم بناء منتخب حقيقي تاه بين أكثر من تكتيك وطريقة من 5-3-2 الدفاعية إلى 4-3-3 إلى حمل المنقذ لبلاده من مباراة إلى أخرى ومرحلة لغيرها، وإسقاط أي دور له (لسابيلا) بالانجازات، إلا أن اليخاندرو أسكت الجميع كما البرتقاليين.
كل ذلك كان قبل لقاء هولندا، أما بعده فللحديث تتمة وجديد؛ التتمة معروفة وهي مواصلة ميسي إلهامه لرفاقه وإن اعتبر الكثيرون أننا لم نره يفعل شيئاً، أما الجديد ظهور إدارة سابيلا لأوّل مرة بوضوح جليّ في ظل تماسك غير معهود عطل الطاحونة قبل أن تهم بالدوران ولما لا قد يعيد الكرة مع الماكينات.
بالحديث عن ليونيل وقيادته للمنتخب قلباً وقالباً مع أربعة أهداف وتمريرة حاسمة لحينه، فإن مجرّد وجوده يشكّل عبئاّ على من أمامه. نجم برشلونة غالباً ما تخصص له مراقبات خاصة تتنادى عند كل مرة يلمس فيها الكرة ويزيد عددها مع كل اقتراب من منطقة الجزاء، فيقلل الضغط عن رفاقه لتصبح تحركاتهم أسهل في شتى أرجاء الملعب حتى الدفاعية منها.
أمام هولندا لم نشاهده يسدد بخطورة سوى الضربة الحرة المباشرة، وقلًت اختراقاته وتحركاته ومع ذلك وضع بالاسيو وروخا في موقعي تسجيل وكلاهما عجز عن ترجمة جهود أفضل لاعبي العالم إلى أرقام محسوسة تدوّن دهاءه.
وأمام هولندا أيضاً لم نكن لنرى لافيتزي يجبر فان خال على سحب مارتنز اندي والدفع بالمميز داريل يانمات وتغيير شخصية الفريق بتعزيز الدفاع وتأخير مركز داني بليند؛ فلاعب باريس سان جيرمان أقلق الدفاعات الهولندية باختراقاته خصوصاً على الميمنة وهو ما كان ليجد المساحات لولا عون رفاقه خصوصاً وجود ليونيل غير المرغوب به وإن وقف مشاهداً.
- اقتباس :
ركض ميسي في اللقاء 10495 متراً وهو معدّل غالباً ما يسجّل أفضل منه في 90 دقيقة والأقل بين رفاقه، (نسبة أو رقماً) إلا أن "البرغوث" اختار تحركاته بعناية بعيداً عن الصراعات المتعبة العقيمة وهو الناظر لمباراة سابعة بظرف شهر.
هذا من جانب، أما على آخر فإنّ الحرية الهجومية التي منحها سابيلا للافيتزي وانزو بيريز بين اليمنة واليسرة أربكت طبعاً الهولنديين غير مرة وإن نادراً ما تحولت التحركات الخطرة إلى فرص قاتلة، ويقينا لو تواجد دي ماريا في موقف مماثل لكانت الأمور أصعب بكثير على فان خال او حتى لو كان هيغوايين في رشاقة لاعبي الكرة المعهودة.
أما الوسط الأرجنتيني فرأيناه ينقض باكراً على الهولنديين مانعاً إياهم من بناء هجماتهم أو إيجاد إيقاعهم فكثرت الكرات المقطوعة بأناقة وسلاسة، ولقي الارتكاز الدفاعي المتمثل بالدينامو ببيليا (جرى 15031 متراً) والممتاز ماسكيرانو سنداً حقيقيا من الخلف خصوصاً الظهيرين النشيطين زاباليتا وروخو وقد رأيناهما محاربين أشعلا الأروقة دفاعاً وهجوماً والأجمل كان الارتداد السريع المتناسق للخلف عند أي فقدان للكرة منهما أو من الوسط كاملاً، يضاف إلى ذلك يقظة ديميكيليس وغاراي، عوامل أفضت لعدم رؤية روبن ولو باختراق وحيد معهود، وحين كان يفلح بالعبور كان الخطأ التكتيكي بالمرصاد علماً أنّه لم يبخل بتقديم أي مجهود.
- اقتباس :
أخفقت هولندا بتسديد كرة واحدة بين الخشبات طيلة الوقت الأصلي أمر يحصل لأول مرة في تاريخها (1996-2014)
وكثيرة الدلالات على ما بلغته الأرجنتين من نضج، نذكر منها:
1-سجلت الأرجنتين في هذا اللقاء 456 تمريرة ناجحة مقابل 656 لهولندا ومع ذلك كانت الأولى أكثر خطورة وتعرضت لأخطاء خشنة أكثر 15 مقابل 10 وبطاقتين صفراوين للبرتقالي مقابل واحدة.
2-معظم تمريرات هولندا المذكورة تمت في محاولة بناء الهجمات والخروج من منطقتها الخلفية وغالباً ما باءت بالفشل بسبب الدفاع المتقدّم الضاغط.
3-في العادة يجري المنتخب الأكثر استحواذاً أقلً من منافسه إلا أننا رأينا العكس في ساو باولو، (139434 م لهولندا مقابل 135423م) وهذا يدل على الجري المستمر من دون كرة من الهولنديين لإيجاد الثغرات إلى محاولات الاختراقات الفردية، أمر لم يفلحوا به مقابل انتشار أرجنتيني مثالي وخطوات مدروسة اقتصدت في الجري دون الاحتفاظ بالكرة مطولاً ورفعت الفعالية ونقلت الهجمة سريعاً بكرات متوسطة غالباً أو طويلة خصوصاً عبر الأروقة حيث وجود ميسي في وسط العمق الهجومي فرّغ كثيراً الأطراف.
4-حلول روبن فان بيرسي ضيف شرف معزز لم يدوّن سوى 9 تمريرات ودون أي تسديدة واحدة طيلة 96 دقيقة !
5-كرة أريين روبن في الوقت القاتل (90) إثر تبادل رائع مع شنايدر، حينها لم يتهوّر الدفاع بخطأ ساذج وعالج ماسكيرانو الانفرادية بمطاردته للاعب الهولندي وتصديه لشبه انفراد بانزلاقة حولت الكرة ركنية ومنعت مهاجم بايرن من التسجيل.
6-الأداء المثالي للحارس سيرخيو روميرو، فبعد أن لاح مهزوزاً لا يعرف التصدي، بات جزءاً من المنظومة بتحركاته وخروجه المثالي من مرماه بالتناغم مع الدفاع، إلى تصديه لركلتي ترجيح. ثقة لها ما تعكسه.
7-استثمار المنتخب للرقابة اللصيقة الدائمة على ميسي بالاستفادة من الأروقة تحديداً، أمرٌ ندر فيما قبل ويفضي إلى تنوع فنيّ في الهجوم.
خميرة-سابيلا ميسي-الأرجنتين نضجت وبات لها هوية فنيّة فذة، وفي ظلّ هذه الوتيرة التصاعدية والشخصية القوية، ينتظر أن نرى موقعة ملتهبة أمام ألمانيا المرشحة نظرياً للقب رابع كما كانت هولندا قبل موقعة ساو باولو مرشحة لنهائي رابع أيضاً.